بيان مجلس العلاقات العربية والدولية/ حول الأوضاع العربية الراهنة والتحديات التي تواجهها الأمة وسبل مواجهتها

إعتباراً للأوضاع الدقيقة التي يعيشها العالم العربي نتيجة للتراجع الشديد في منظومة الأمن القومي العربي بسبب غياب الحريات العامة واستشراء الفساد السياسي والاقتصادي وتدهور الإدارة العامة في جميع مجالات التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وانسداد الأفق أمام تطور المجتمعات العربية وقواها الفاعلة وانحدار مستوى الخدمات العامة بما في ذلك التعليم والصحة وكذلك غياب فرص المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص وما نجم عنها من تفاقم مشاعر القلق والإحباط واليأس من المستقبل وخاصة لدى الأغلبية الشابة في مجتمعاتنا العربية خاصة مع تفجر نزعات التطرف الديني والإرهاب الفكري واللجوء للعنف الأعمى.

ولكون هذه الأوضاع في مقدمة الأسباب التي أدت إلى ضعف وانهيار الدولة ومؤسساتها في بعض الدول العربية وأدت إلى إنهيار التوازن الاستراتيجي بين المنطقة العربية و جوارها وإلى تفاقم خطر إنهيار النظام العربي بالكامل وبروز شبح التقسيم والتفتيت على أسس عنصرية وطائفية ومذهبية بل وحتى مناطقية.

فإن غياب الإرادة العربية القادرة على جمع وتصليب الموقف العربي وعلى حشد الإمكانيات للتصدي لمخططات القوى الدولية والإقليمية التي تعيث إفساداً وفرقة وتمزيقاً في الجسد العربي ساهم في تفاقم هذه التطورات السلبية وأصبح يستوجب تداعي قوى ومنظمات وهيئات المجتمع المدني والإتحادات المهنية والنقابات وقواه السياسية الفاعلة ونخبه المفكرة للخروج ببرنامج عمل وطني شامل جامع تلتقي حوله وتعمل على أساسه المنظومة الرسمية العربية وتستقوي به أمام التحديات الداخلية والخارجية ولتحقيق ما عملت الأجيال العربية في المشرق والمغرب من أجله لعدة عقود من نضالات وتضحيات من أجل الاستقلال والحرية والسيادة والعيش الكريم والكرامة الإنسانية.

إن الواقع المتردي هذا يستدعي أولاً وقبل كل شئ تحديد مسارات الأحداث والصدمات والمشكلات التي أوصلت الأمة إلى هذا المأزق التاريخي الخطير والتي من أبرزها:-

أولاً:
إستمرار القضية الفلسطينية دون حل عادل مما أدى إلى تفاقم التداعيات العميقة والخطيرة التي هزت و شلت المنطقة طوال العقود السبعة الماضية ولاسيما خلال السنوات الخمس الأخيرة جراء ذلك، وجراء استمرار سياسة الكيل بمكيالين التي تتبعها الدول الغربية في التعامل مع هذه القضية واستغلال إسرائيل لذلك كله من أجل تصفيتها.

ثانياً:
الغياب النسبي لدور مصر عن قضايا العالم العربي مما تسبب بفراغ كبير وخطير وذلك خلافاً لما كان لمصر وما ينبغي أن يكون لها من دور ووزن عربي وإقليمي حيوي ولا بديل عنه.

ثالثاً:
الغزو السوڤيتي لأفغانستان وما أدى إليه من صراعات ونزاعات واجتياحات وتفجير لبراكين التطرف والعنف والفتن في العديد من الدول العربية والإسلامية.

رابعاً:
غزو النظام العراقي لدولة الكويت وما أدى إليه من زلزال عنيف وإنقسامات داخل الصف العربي.

خامساً:
تصاعد التدخل الإيراني في مناطق عدة من العالم العربي مدفوعاً بسياسة تصدير الثورة المبنية على طموحات عنصرية فارسية أكدتها تصريحات بعض كبار المسئولين الإيرانيين بشأن نفوذ إيران في أربعة عواصم عربية أو في إعادة بناء الدولة الفارسية وعاصمتها بغداد...إلخ،، ويضاف إلى ذلك ممارسات التدخل الإيراني الفجه في الشئون الداخلية في عدد من الدول العربية ومنها الخليجية من خلال تشجيع الطائفية السياسية و إستثارة التعصب والعصبيات الطائفية والمذهبية بما يستولد تعصباً وتطرفاً وعنفاً مقابلاً، بما في ذلك الإمعان باستخدام أدوات بعث الفتنة بين السنة والشيعة وزيادة حدتها وهي الفتنة التي أصبحت تهدد الإسلام ووحدته وتضعف من موقفه أمام أعدائه وكارهيه، وتسهم في تمزيق المجتمعات العربية طائفياً ومذهبياً، وتبرر دعم سياسات التدخل في الشؤون الداخلية العربية، الأمر الذي أخل بالتوازن الاستراتيجي في المنطقة لصالح التدخل الخارجي ومهد الطريق لصفقات مشبوهة من شأنها أن تؤثر سلباً في مستقبل المنطقة واستقرارها ورخائها.

سادساً:
إستمرار تداعيات الإحتلال وسياساته التي نتجت عن الغزو الأمريكي للعراق والذي أدى إلى تمزيق الدولة العراقية وتدمير مؤسساتها المدنية والعسكرية وخلق فراغاً خطيراً سعت وتسعى الدول الإقليمية وعلى رأسها إيران لإستغلاله في تعظيم نفوذها في المنطقة العربية من خلال تسييس الدين وتمزيق النسيج الإجتماعي في البلدان العربية.

سابعاً:
التداعيات الخطيرة البالغة التأثير على أكثر من صعيد لثورة الاتصالات والتي بينت وبوضوح كامل الفجوة التي تعيشها المجتمعات العربية وتخلفها وتراجعها عن المتغيرات في العالم والتي فاقمها الانفجار السكاني في المنطقة العربية وعدم مواكبة جهود التنمية والنمو لتلك المتغيرات وتصاعد مشكلة البطالة والانحسار المتزايد في مستوى الحريات الخاصة والعامة وتردي الأوضاع المعيشية في أكثر من بلد عربي مما ساهم بشكل كبير في زيادة حدة الإحباط لدى الشباب والأجيال الصاعدة وساهم في إطلاق حركات التغيير العربي خاصة في ظل غياب الأمل في المستقبل كما أن غياب القيادة السياسية الواعية في توجيه حركات التغيير أدى إلى إنحرافها عن أهدافها النبيلة والسلمية وحولها لمأساة إنسانية مروعة يدفع أكلافها الأبرياء من المدنيين وتهدد حاضر ومستقبل كيانات عربية غالية تمثل العمق الحضاري للأمة العربية كما هو الحال في سوريا والعراق واليمن وليبيا.

* لقد أسهمت تلك الصدمات والمشكلات في نشوء وبروز عدد من التنظيمات الدينية المتطرفة بعد فشل المشروع القومي العربي وخيبة الأمل في قدرة هذا المشروع على تحقيق الآمال الوطنية وأحلام الازدهار الاقتصادي وعدم قدرته على التجاوب والتماهي مع التقدم الإنساني الباهر في مجال حقوق الإنسان والحريات العامة وتحقيق الاستقرار والازدهار للمجتمعات العربية مما أدى إلى الانحرافات الفكرية وزيادة حدة الغلو والتطرف لدى الشباب العربي والمسلم و شوه المفاهيم السمحة لدين الإسلام العظيم ومكن أعداء المنطقة من القوى الإقليمية والدولية من التدخل السافر والوقح بشئون المنطقة بحجة محاربة الإرهاب دون أي اعتبار للجذور الحقيقية للمشكلات التي أفرزت هذا الفكر المشوه والمدمر.

* لقد آن الأوان للعودة لإنجاح المشروع الحضاري للعروبة المستنيرة والجامعة والمحتضنة لشتى المكونات العربية الطائفية والمذهبية والإثنية بعيداً عن الاجتثاث والتشفي والثأر، والمكتمل بالمشروع العربي المعترف بالتنوع والآخر داخل المجتمعات العربية والمعترفة بالكيانات الوطنية المستقلة للدول العربية المختلفة والقائمة على أساس الحكم المدني المبني على دولة المواطنة التي ترتكز على العدل والمساواه وسيادة القانون وإحترام حرية الفرد المواطن والقيم الديموقراطية الحقّة التي ترفض نزعات الإقصاء والتكفير والتهميش .

* هذا المشروع العربي الذي يجعل من المصالح العربية المشتركة الأساس لجمع العرب وتوحيد كلمتهم وتعزيز تضامنهم على أساس من التكامل والاعتماد المتبادل وبما يعطي شعوب المنطقة العربية ما تستحق من كرامة وعدالة وفرص عمل ومشاركة حقيقية في قيم هذا العصر.

* وبناء على ما تقدم فإن إعادة الإعتبار للمشروع العربي يجب أن تأخذ بعين الإعتبار أولويات العمل العربي وضمن محاور عدة في مقدمتها :

أولاً:
إعادة الإعتبار للقضية العربية الأساس من خلال التركيز على ضرورة التوصل إلى حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية مما يعيد الكرامة المفقودة للعرب ويزيل أحد أهم بؤر التوتر والاحتقان والشعور بالظلم والمهانة وذلك بالالتزام بالمبادرة العربية الصادرة عن مؤتمر القمة العربية الذي انعقد في بيروت في العام 2002 وعلى أساس حل الدولتين والعودة إلى حدود العام 1967 ، مما يستوجب العمل على وحدة الفصائل الفلسطينية وانضوائها تحت الشرعية الفلسطينية كشرط أولي وحاسم في تحقيق هذا الهدف.

ثانياً:
العمل على تطوير موقف عربي واضح وثابت يستعيد التوازن الاستراتيجي في المنطقة وذلك من خلال تطوير إرادة عربية واحدة بشأن القضايا والمشكلات التي تتعرض لها المنطقة العربية وذلك بديلاً عن تعدد الإرادات المتناثرة والمتعارضة.

ثالثاً:
تبني موقف واضح ومبادر في آن واحد من الجمهورية الإسلامية الإيرانية قائم على الإدراك بأن لا مصلحة للفريقين العربي والإيراني في زيادة حدة الخصومة والعداء بينهما والتي لن تعود إلا بالدمار والخراب على الفريقين. إنّ المصلحة المشتركة تقتضي أن يكون هناك سعي لإنشاء علاقات صحيحة بين الدول العربية وبين الدولة الإيرانية تكون مبنية على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشئون الداخلية لدول المنطقة إستناداً إلى التاريخ الطويل في العلاقة بين إيران والمنطقة العربية والجغرافيا المتصلة بينهما والمصالح الحقيقية للطرفين وفق سياسة حسن الجوار، وهذا يعني أن يمد العرب أيديهم إلى إيران لاستعادة الثقة والتعاون، وأن تبادر إيران بالفعل وليس بالقول فقط إلى إنهاء أحلام الهيمنة والسيطرة وبسط النفوذ والعودة إلى البناء على قواعد الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشئون الداخلية للطرفين وإن ما جرى فيما يتعلق بإعادة رسم علاقة إيران مع المجتمع الدولي يمكن أن يسري أيضاً على بناء العلاقة السليمة والصحيحة والسوية بين إيران والدول العربية.

رابعاً:
التركيز على أهمية البناء على العمل العربي المشترك واستخلاص العبر من أخطاء الماضي وتعميق المصالح العربية المشتركة وصولاً للتكامل العربي بعيداً عن مشكلات إرادة التفرد وإهمال روحية التكامل وعقلانياته، إن تفعيل العمل العربي المشترك يقتضي تطوير موقف عربي جماعي واضح وحازم يستعيد التوازن الاستراتيجي في المنطقة العربية ومع تركيا ويتصدى للاجتياح الإيراني للدول والمجتمعات العربية وأيضاً للتحدي الأساس للاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني على أساس الالتزام بالمبادرة العربية للسلام.

خامساً:
التقدم على مسار الإصلاح السياسي وذلك بالعمل على إعادة تأسيس الحكم المدني المحتضن لكل المكونات، والدولة المدنية، دولة الحكم الصالح والرشيد بعيداً عن أوهام الدولة الدينية وأوهام الأصوليات القاتلة وإغراءات الديكتاتوريات التي عانت منها شعوبنا العربية على مدى عقود ماضية، و العمل على التصدي لأسباب تفكك المجتمعات العربية من الداخل والذي تزيد من حدته التدخلات الخارجية من خلال التشديد على الهوية الجامعة والسعي لإعادة الاعتبار لمبادئ المواطنة والمساواة الكاملة من خلال أنظمة حكم قائمة على هذه المبادئ.

سادساً: التقدم على مسار الإصلاح الديني وإنقاذ الإسلام واسترجاعه من خاطفيه وإنقاذ العالم العربي من الوقوع في تجارب ومحن صراع الأصوليات القاتلة وتفادي هدر عقود إضافية في حروب عبثية وتجارب فاشلة ، مما يستوجب ضرورة إتحاد قوى الاعتدال في مواجهة قوى التطرف ، لقد بينت التطورات الحاصلة أنّ هناك ضروراتٌ كبرى ومصيرية للمبادرة في التقدم على مسار مباشرة إصلاح ديني يتناول الخطاب السائد، ويتناول المؤسساتِ الدينية وطرائقَ عملِها وهناك أمائر ومبشِّرات في بيانات الأزهر، وإعلان بيروت للحريات الدينية، وإعلان مراكش أخيراً.

* في ضوء هذا الواقع الصعب يتبين بما لا يقبل الشك أنه لا يمكن لدولنا ولا لمجتمعاتنا العربية أن تلقى الاهتمام والاحترام في محيطها وفي العالم في ظل غياب موقف عربي حازم وفكر عربي مبادر وخلاق، إذ إنّ حال التشرذم والانقسام والاستمرار في الانصياع إلى منطق الإرادات المتعارضة بدلاً من التآلف بينها ضمن إطار المصلحة العربية الواحدة سوف يدفع بدول الجوار الإقليمية والمجتمع الدولي إلى تجاهل مصالح وإهتمامات الدول العربية والاستخفاف بها بل وحتى محاولات الاستيلاء عليها وانتهاك سيادتها.

* أن هناك حاجة ماسة لتكوين موقف عربي يعيد للعرب احترامهم بدايةً لأنفسهم، ولدى غيرهم ويستعيد بموجبه المواطنون العرب بعض الأمل في المستقبل ويعيد إليهم احترام العالم لهم ولقضاياهم وهذا ما يمكن أن يساعد عليه التقدم على مسار بناء قوة عربية مشتركة للحفاظ على الأمن القومي العربي وهو ما يمكن أن يشكل الخطوة العملية الأولى في إنتاج موقف عربي يخرج الأمة من حال التقاعس والتواكل ويوقف حالة الانحدار العربية.

* من ثم فإن لقاءً لمجموعة منتقاة من النخب العربية من العلماء والمفكرين من مختلف المشارب والتوجهات لكفيل بتحويل الرؤى المشار إليها أعلاه إلى سياسات تلتزم بها المؤسسات والمنظمات العربية وكذلك قوى المجتمع المدني وتحولها لبرنامج عمل متكامل مع التركيز على السياسات المشتركة للأمن العربي في العقد الحالي كقضية التهديد الإستراتيجي للأمن العربي وقضية العمل والتعاون مع الدول والمجتمعات الإسلامية في قضايا التطرف والإرهاب ، والتعاطي والتعامل مع المجتمع الدولي برؤية حضارية موحدة تعكس وبصدق قيمنا الإنسانية والدينية وتراثنا التليد.

وبالتالي فإن الأمر يستوجب ضرورة عقد مؤتمر عام وجامع لمواجهة التحديات والأزمات البنيوية التي تواجهها الأمة خلال الفترة القريبة القادمة للتداول والبحث في سبل تطوير الإستراتيچية الشاملة لقوى وفعاليات المجتمع المدني العربي ودورها الحيوي في التصدي لعوامل الضعف والتفكك والإنهيار في منظومة الأمن القومي العربي وتفعيل مشاركة شعوب المنطقة في تقرير مصيرها وحماية مصالح الأمة ومستقبلها.

أحدث القضايا

المزيد من القضايا >>