دراسة للدكتور مصطفى عثمان عن الوضع في السودان بعد انفصال الجنوب

دراسة للدكتور مصطفى عثمان عن الوضع في السودان بعد انفصال الجنوب-عرضها في الاجتماع الخامس للمجلس بتاريخ 24 يناير 2011


يقتضينى العرفان، إن أزجى شكراً فياضاً وتقديراً وأفراً للأخ الكريم الأستاذ محمد جاسم الصقر رئيس مجلس العلاقات العربية والدولية، على الدعوة المقدرة للإسهام فى هذا المنتدى الفعّال، ولا شك عندى أن هذا المجلس يجسد أهمية فائقة، إذ بإمكانه أن يفترع من الرؤّى والقراءات والأنشطة ما يطفئ ظمأً غلاّباً للحكمة، بقى يسيطر على مدارات الحكم والسياسة فى بلادنا فى هجير عواصف السياسة الدولية وتداعياتها المتسارعة، إلى الحد الذى تكاثرت فيه ردود أفعالنا وتمددت ثم استطالت وتراكمت دون أن تستند فى كثير من الأحيان إلى دراسات راشدة أو أدبيات ناطقة، وتلك مسئولية جسيمة أرى-  ومن واقع خبرتى كوزير سابق للخارجية- إن مجلس العلاقات العربية والدولية قادر على النهوض بتبعاتها ليمنح الدبلوماسية العربية والدولية قدرة على النفاذ إلى تجليات الأحداث، لاسيما وأن تكوين هذا المجلس يأتى فريداً فى تنوع خبرات مكوّنيه، إذ كلها شخصيات يُرتجى منها أن تثري أروقة السياسة بحكمتها ورشدها ورفيع أدوارها.

مدخل:

   إن الواقع الماثل اليوم فى السودان، يقول بأن لحظةً تاريخيةً قد حانت بتقرير أهل الجنوب مصيرهم وفقا لإستفتاء حر،أقرّته وعملت على إنفاذه إرادة سودانية خالصة.. وإستناداً إلى ذلك فإن الخريطة السودانية المشهورة بمساحتها  الشاسعة، المتدلية بانسياب متسق من حدود مدار السرطان الى خط الإستواء، أقول: إن هذه الخريطة سوف تشهد تقلصاً  بيّناً إثر إنفصال الجنوب، الذى لا مناص من التعامل مع تداعياته ببصيرة وثبات جنان، لأنه تطور حاسم ينطوى على آثار تتراوح بين الإيجابية والسلبية، وهى آثار لن يقف مدّها عند حدود الدولة السودانية الأصل، ولا  الدولة الجنوبية الوليدة، بل سيتخطاهما الى تأثير ممتد يطال الإقليم الأفريقى والمنطقة العربية.
      ومن هذا المنطلق فإن هذه الورقة فى سعيها الى تقصى أنماط هذه التداعيات وإفرازاتها، سوف تشرع بدءاً بتقديم نبذة تاريخية موجزة عن علاقة الشمال والجنوب ، ثم مقارنة السودان قبل الإنفصال وبعده ،ثم تناول موضوع حق تقرير المصير بتتبع يكشف عن بداياته وتبلوره، ثم التطرق، بإيجاز، لإتفاق السلام الشامل الذى أفضى الى تقرير المصير، ثم النظر إلى دولة السودان بعد الانفصال ، وإلى مستقبل دولة الجنوب الوليدة، يتلو ذلك إستقراء لتداعيات الانفصال ، واستخلاص لنتاج ذلك الإستقراء.


أولاً:  علاقة  الشمال والجنوب: نظرة تاريخية

أستهلُّ هذا العرض بالتفات أراه ضرورياً إلى الحقائق التاريخية والتى تشكًل بموجبها كيان الدولة القطرية السودانية ، إذ ماننفك- كلما قلبنا النظر فى تفاصيل هذه الحقائق- ندرك أنه منذ العام 1821- السنة التى دخل فيها الأتراك السودان وتوصف بأنها بداية تاريخ السودان الحديث- وحتى يومنا هذا ، ظل  المجتمع السودانى مجتمعا بعيداً عن الإنصهار فى بوتقة تنفى عنه تشرذمات علائقه القبلية والأثنية الأولى، وليس جنوب السودان إلا تجليا يبرهن على هذه الحقيقة الماثلة ، فهذا الإقليم قد جرى ضمّه إلى شمال السودان، دون اعتبار إلى عناصر الاختلاف، كنتاج لتقاسم النفوذ بين بريطانيا وفرنسا  فى منطقة البحيرات، ليؤول السودان إلى السيادة البريطانية حين إستخدمت لندن نفوذها فى مصر الخديوى، لتضع يدها على كامل التراب السوداني- بشقيه- عبر ماسمي بالحكم الثنائى.
ثم إمعاناً فى المُضى على خطة تسوّغ إدارة الجنوب تحت مظلة الحكم الثنائى والتعامل معه، فى ذات الوقت، باعتباره كياناً ذا خصوصية، فإن الحكومة البريطانية عمدت عام عام 1921 إلى إصدار قانون المناطق المقفولة الذى أوقع قطيعة تاريخية بين شمال السودان وجنوبه، حين منع دخول أهل الشمال الى الجنوب  -أو العكس- وبذا توقف المد الطبيعى بين الشطرين حتى العام 1936 إذ لم يكن الجنوب مفتوحاً إلا أمام الإرساليات التبشيرية، فما عاد من سبيل للتواصل بين شقى القطر،فقد نص قانون المناطق المقفولة عام 1921 على الآتى:

1.الرجوع إلى العادات القبلية القديمة.
2.منع إستخدام اللغة العربية.
3.منع لبس الأزياء السودانية
4.منع استخدام الأسماء العربية
5. يُعطى المواطن الجنوبى اسماً من  الكنيسة، أو رقماً.
6.كل من يخالف هذه الأوامر يعاقب بالجلد وأخذ أبقاره وممتلكاته.
7.إنشاء منطقة عازلة بين الشمال والجنوب بعرض 10 كيلو مترات، وحرق كل القرى الموجودة فى هذه المنطقة ، كقرية( كفية) وغيرها.
إن قانون المناطق المقفولة، ببنوده هذه- وبتركيز الكنائس على كراهية المسلمين والعرب في نفوس الجنوبيين- ألقى  بآثار بالغة الحسم فى تشكيل بيئة نفسية لم تستطع كل حكومات العهد الوطني- بعد الإستقلال- من التعاطى معها بعقلانية تأخذ فى إعتبارها الحساسية المفرطة للوضع، تلك الناجمة عن العزلة التاريخية للجنوب التى فرضتها الإدارة البريطانية، فكان أن تراوحت العلاقة بين أشرس أنماط الحروب الأهلية، والفتور المترقب لإنفجار الوضع بإتجاه حرب مستجدة،إذ انطلق الصراع المسلح يأخذ طريقه بدءاً من التمرد المشهور فى توريت عام 1955 ، وهو الذى نبّه النخبة الحاكمة فى الشمال إلى النمط الجديد من أنماط الصراع ، بطبيعته المسلحة التى مضت تتكرر فى مناوشات ، لم يقلل من تفاقم آثارها مؤتمر المائدة المستديرة الذى أنعقد بعد ثورة اكتوبر الشعبية (1965)، وهو المؤتمر الذى حاول وضع لبنات سلمية لم يقدّر لها النفاذ، حتى مجئ الرئيس جعفر نميرى بخطة الحكم الذاتى الإقليمى عام 1972، الذى أفلح فى إبتداع إستقرار لمدة عشر سنوات إنتهت بإندلاع التمرد مرة ثانية ولمدة اثنتين وعشرين سنة منذ عام 1983، إلى أن أقرت إتفاقية السلام الموقعة عام 2005 حق تقرير المصير لأهل الجنوب ، بما قاد إليه اليوم من توجه ماثل نحو الإنفصال، بعد ست سنوات من وقف إطلاق النار.
 
ثانيا: حق تقرير المصير

والحق.. أن تقرير مصير جنوب السودان لم يأت وليداً لإتفاق نيفاشا 2005 كما يحسب البعض، .. بل ظل يراوح ضمن أدبيات الحوار الشمالى الجنوبي حتى قبل نيل السودان إستقلاله عام 1956 . ففى مؤتمر جوبا  (1947)،الذى دعت الإدارة البريطانية إليه كل قيادات الكيانات السياسية السودانية- شماليها وجنوبيها-  إرتفع النداء الجنوبى  مطالباً بإعمال حق تقرير المصير، ولما  لم يجد  النداء أذان مصغية  راحت القيادات الجنوبية تؤلب على الشمال  بما نتج عنه  المذبحة الشهيرة  التى راح ضحيتها شماليون كثر فى جنوب السودان عام 1955، كما أشرنا0
 ثم كان أن تجددت  المطالبة بتقرير المصير  فى مؤتمر المائدة المستديرة  الذى إنعقد خلال  العهد الحزبى (1965) ، إذ تعالت أصوات جنوبية شهيرة، مثل ابيل الير واقري جادين مطالبة به، فعصفت المطالبة  بأعمال  المؤتمر لتظل  توصياته تقبع  فى أضابير الحوار  دون أن تنال حظاً من  ذيوع، وليتسبب ذلك فى تدهور العلاقة التى أفضت إلى الإنقلاب العسكري الذى قاده العقيد جعفر نميرى عام 1969 ، وجعل من قضية الجنوب أولوية له، ليفلح فى التوصل  الى إتفاق سلمى دام عشر سنوات تحت مظلة حكم ذاتى فيدرالى موسع ، جعل من الجنوب إقليماً واحداً، و يحظى بإستقلال محدود  فى السلطات ، غير أنه مع حلول العام 1983 ، إنقلب النميرى على هذه الصيغة، حين بدا له أنها صيغة غير مناسبة، اذ يمكن أن تؤدي إلى مطالبة الجنوبيين بحق تقرير المصير، فقسم الجنوب إلى ثلاثة أقاليم ، ما أشعل ثائرة بعض القيادات الجنوبية التى وجدت فى العقيد جون قرنق منفذاً للتمرد العسكرى الذى إستمر،  منذئذ، ولم تفلح الأنظمة التى أعقبت عهد نميرى فى إطفائه(حكومة المشير سوار الدهب،،1985 وحكومات الصادق المهدي الثلاث 86/89 )، بل تفاقمت وتيرة الأعمال العسكرية الجنوبية وتمددت تحركاتها لتهدد حتى المدن الشمالية المتاخمة للجنوب، فى أجواء مضت فيها الروح المعنوية للقوات المسلحة السودانية تشهد تدنياً إلى حد حتم إندلاع التغيير الذي قاده العميد عمر حسن أحمد البشير  فى 30 من يونيو 1989،  لتكون قضية الجنوب أيضاً هذه المرة سبباً أساسياً للتغيير، ولتحتل صدارة أولويات القضايا التى تستدعى المعالجة، لذا لم يمض سوى أسبوعين على السلطة الجديدة حتى بعثت بوفد منها للإلتقاء بوفد من الحركة الشعبية ترأسه جون قرنق، كفاتحة لخطة سلام أحكمت الحكومة رؤيتها فيها بالمؤتمر الجامع لقضايا السلام الذى أنعقد فى خواتيم عام 1989.
 ثم مع حلول يناير 1992 وقعت الحكومة السودانية إتفاقا مع لام أكول فى فرانكفورت حمل قبولاً مبدئياً بإدراج حق تقرير المصير كبند ضمن بنود التفاوض، وهو ذات ما حمله بروتوكول أسمرا الذى توصلت إليه أحزاب المعارضة ( التجمع)، لتكون المعارضة بذلك طرفاً أصيلاً فى معادلة ترسيخ فاعلية مبدأ تقرير المصير ، ثم جاءت إتفاقية الخرطوم للسلام 1996 حاملةً نصاً واضحاً لتقرير المصير ، جرى تضمينه الدستور ليكون ملزماً للجميع، فلم يجد إتفاق نيفاشا مناصاً من جعله أساسا للتفاوض، إذ لم يكن يعقل أن تقبل الحركة الشعبية حوار سلمياً لا يبدأ من حيث إنتهى الآخرون.

 ولئن كان الجنوب ينهض دليلاً ساطعاً على ماذهبنا إليه من ضعف عناصر الإنصهار بين المكونات الديموغرافية السودانية ، فإن نزاعات أخرى تشير إلى صدق هذه الحقيقة، وإن كان بواقع أقل فداحة عما هو عليه الحال فى الجنوب.

 ثالثاً: السودان بعد إنفصال الجنوب(  مقارنة)



السودان
جنوب السودان
1
المساحة
1.865813 كلم 2( الدولة 16 عالمياً من حيث المساحة ( كانت الدولة العاشرة) والثالثة أفريقيا بعد الجزائر والكنغو الديمقراطية وكانت الأولى أفريقياً وعربياً.
- الأراضى بإستثناء وادى النيل الخصب وبعض المناطق فى شرق السودان وجنوب النيل الأزرق والجزيرة ودارفور وجنوب كردفان، جزء كبيرمنها  صحراوي
640.000 كلم2
 الدولة 42 عالميا من حيث المساحة.
28% من مساحة السودان قبل الإنفصال.
40% مراعي .
30% أراضى زراعية.
23% غابات.
7% مسطحات مائية.
2
الجوار الجغرافي

مصر- ليبيا- تشاد- أرتريا، جزء من أفريقيا الوسطى- جزء من أثيوبيا –- البحر الأحمر.
جزء من أفريقيا الوسطى- يوغندا- كينيا – جزء من أثيوبيا - جمهورية الكنغو الديمقراطية.
3
السكان
31.860.887 (حسب إحصاء 2008)
8.193.887 ملايين ( حسب إحصاء 2008)
(21% من مجمل السكان )
 يعيش حوالى 520.000 فى الشمال
4
 الحدود
2010 كلم مع جنوب السودان
1.360 كلم مع تشاد
1.273 كلم مع مصر
605 كلم مع أرتريا
جزء مع أثيوبيا وجزء آخر مع أفريقيا الوسطى
 مجمل طول الحدود 4010 كلم، وتفاصيلها كمايلى: (2010) مع السودان
628 كلم مع الكنغو، 232 مع كينيا ،435 كلم مع يوغندا – والباقى مع أفريقيا الوسطى وأثيوبيا
5
الموارد الأساسية
(1)إنتاج نفط الشمال115 ألف برميل فى اليوم. جملة الإنتاج قبل الإنفصال 475 ألف برميل.
إيرادات النفط  قبل الإنقسام تشكل حوالى 60%.
(ب) أنابيب نقل النفط كلها فى الشمال: 4070 كيلومتر لنقل الخام، 1613 كيلو متر لنقل للمنتجات .
 165 كيلو متر لنقل الغاز.
 غالبية حقول  النفط المكتشفة الآن فى الجنوب.
- يشكل النفط 98% من إيرادات حكومة الجنوب.
6
 الغاز الطبيعى
يشكل إحتياطياً مقداره 84095 بليون متر مكعب فى منطقة البحر الأحمر.
-
7
 المعادن
 الذهب ( 75 ألف كيلوجرام فى العام) بمناطق البحر الأحمر والشمالية.
 الكروم 50 ألف طن، بجبال الإنقسنا.
 النحاس- الحديد(500 مليون طن)- المانغنيز اليورنيوم.
 المايكا ( 400- 1000 طن/ عام ، الجبس( 220 مليون من الإحتياطى) الأسبتوس- الرخام الجرانيت- بالإضافة الى كنز البحر الأحمر المشترك مع السعودية ( زنك- فضة – نحاس) وبكميات كبيرة.
- الملح- ( البحر الأحمر) – الكبريت – رصاص – وزنك ( دارفور)

 الذهب فى  منطقة كبويتا – حديد
8
 الأنعام
  الأبقار 
 الضان  
  الأغنام
 الجمال
 الأبقار
 الضان
 الأغنام
9
 الأسماك
المنتج من النيل وروافده  24.000 طن فى العام
 المخزون  100.000 طن سنوياً
 المنتج من البحر الأحمر 2000- 50000 طن فى العام
 المخزون المتوقع 200.000 – 500.000 طن سنوياً
10
الزراعة
تغطى الصحراء 67 مليون هكتار
 المراعى – 120-مليون هكتار
 الاراضى الصالحة للزراعة 84 مليون هكتار.
الأراضى المزروعة  7.5 مليون هكتار.
 المزروعة 7.5 مليون هكتار ( حوالى 10- 11%)
 الصمغ 40.000 طن فى العام 80% من إنتاج العالم
 السمسم- الذرة والدخن- الفول السوداني القطن- قصب   السكر- الكركدي.... الخ
 تغطى المستنقعات مساحة 2.7 مليون هكتار.

لا توجد زراعات منتظمة.
 كميات قليلة من الحبوب والكسافا
 كميات من المانجو والأنناس ... الخ.
11
 المياهـ
 18.5 مليار متر مكعب ( بموجب إتفاقية مياه النيل )
علاوة على مخزون مائى جوفى، وتخزين مياه.
 النيل الأبيض وروافده- إمطار غزيرة

12
 السكك الحديدية مواني بحرية

مطارات

5.978 كليو متر
 ميناء بورتسودان- ميناء سواكن- ميناء بشائر
عدد من المطارات المعبدة على رأسها مطارات الخرطوم، بورتسودان، نيالا ، الفاشر ، الأُبيض.
 جزء يربط بابنوسة/ واو، فلوج

 منطقة مغلقة.



 3 مطارات معبدة ، جوبا، ملكال، واو


رابعاً : إتفاق السلام الشامل

          يعد إتفاق السلام الشامل الذى جرى توقيعه بنيروبى عام 2005،إتفاقاً سلمياً نموذجياً فى فصوله ودقة تناوله للقضايا المتكاثرة فى تاريخ علاقات  الشمال والجنوب.. ولقد تضمن الإتفاق ثلاثة بنود أساسية فى قسمة السلطة ، وقسمة الثروة، والترتيبات الأمنية ، مظللأً ذلك كله بالإتفاق على تقرير المصير كحق يسمح لأهل الجنوب بالاختيار بين الوحدة والإنفصال. والحق.. أنه بالرغم مما يلوح فى ثنايا حق تقرير المصير من تركيز بدا معه كما لو أنه يترك الأمر – برومانسية- ليفضى إلى الإنفصال،فإن الروح التي أشاعة الثقة فى أجواء المفاوضات، والرؤية التى صاغت النصوص، والإرادة التى حكمت ذلك جميعاً، كان جلياً  أنها تؤسس لوحدة بين شطري الوطن ، جعلت السعى لأن تكون وحدة جاذبة ، نصاً واضحاً، بل مضت إلى أكثر من ذلك بمنحها الحركة الشعبية ميزات فاعلة، تضمنت إحتفاظها  بجيشها فى الجنوب، مع مشاركة قوات منها فى الجيش الوطنى، كما منحتها خالص الحكم للاقليم الجنوبي، مع المشاركة فى الشمال بثلاثين فى المئة من الحكومة المركزية، خُصّص للحركة فيها عدد من الوزارات السيادية، وبذات النسبة فى  البرلمان، مع تداول الحكم الولائى ليكون الوالى أو نائبه من المنتمين للحركة ، مع نسبة مماثلة فى  التمثيل الدبلوماسي والوظائف الإدارية العليا فى الدولة.
    ولقد مضى إنفاذ بنود إتفاق السلام بإتساق عبر إنشاء ست مفوضيات تولت إنفاذ ومراقبة البنود المتفق عليها.. لقد كان ذلك كله يشفُّ عن إرادة وافرة تغلّب خيار الوحدة ،غير أن عدداً من المستجدات أسهم فى تبنى النخبة القيادية فى الحركة الشعبية  طريقا مفضياً الى  غير ما طمحت إليه الإتفاقية وموقعوها، ومن تلك المستجدات :
 الرحيل المفاجئ للدكتور جون قرنق بشخصيته الكارزمية وتوجهاته الوحدوية.
 التدخلات الخارجية التى حّسنت لنخبة الحركة الشعبية عبر الإغراءات والقراءة الخاطئة، خيار الإنفصال.
 التباينات بين شريكى الحكم حول بعض القضايا الأساسية ومنها تطاول الجدال – الذى ماكان له أن يستطيل- حول قانون الأمن ،وقانون الإنتخابات ، وقانون الإستفتاء ، وما يتعلق من ذلك بموضوع الحدود.
 الغيرة السياسية التى أنتابت الأحزاب المعارضة، وجلعها تسعى جاهدة لتوسيع شقة الخلاف بين الشريكين حول القضايا المشار  إليها.
التوجهات الإنفصالية لدى بعض التكوينات السياسية فى شمال السودان، مثل منبر السلام العادل الذى لم يتوان لحظة في تقريع الحركة الشعبية وإذكاء جذوة الانفصال بين أهل الشمال وتحسينه لدى الجنوبيين.

 إن كل ما تقدم لا يقدح فى متن اتفاق السلام ، فبحسبه أنه أوقف حربا  ضروساً إستطال أمدها وخلفت من الضحايا ما جعل منها كارثة أوقفت عجلة التنمية فى القطر كله ، وعمقت من ضعف الثقة  إلى الحد الذى آل معه الأمر الى جراح غائرة فى نفوس كل الشماليين والجنوبيين .. ورغم أن العوامل التى تقدم ذكرها أسهمت- بوعى أو لا وعى-  فى حفز الإنفصال والترويج له ، فإن هذا الخيار فى نهاية المطاف يبقى خياراً موضوعياً، لم تكن الحكومة السودانية غافلة عن حقيقة أنه يتحصّن بفرصة كبيرة ليغدو واقعاً حقيقياً معاشاً .. فقد ظل صوت واحد كافياً لإنجاحه.. ذلك مالم يكن غائباً عن الحسابات وإن طمحت إلى غيره.


خامسا:  تداعيات الانفصال شمالاً وجنوباً:

(1)دولة الشمال:

   يتملك الكثيرين رأى غالب بأن السودان( أعنى الدولة الشمالية)، سوف يتأثر تأثُّراً باهظاً بمالآت انفصال الجنوب.. ينحو البعض من أولئك المتشائمين منحىً عاطفياً تشيع فى آرائه ومفـــرداته روح المــــاضوية المتشوقـــة ( نوستالجيا)، وينحو البعض منهم منحىً عقلانياً يقرأ التطور الجديد من منطلق المصالح المحضة، فى ما يذهب طرف ثالث من أولئك المتشائمين إلى أن الدولة الجنوبية الجديدة- بإفتقارها عناصر الدولة- سوف تثقل كاهل الشمال بأعباء تفوق أعباء الماضي يوم كان الأمر واحداً.
غير أن فريقاً من المتفائلين يسارع بالرد على أولئك متدثراً بقول المتنبى الشهير:

 والموتُ أهونُ لي مما أراقبُهٌ
            أنا الغريقُ فما خوفي من البلل.

وبالطبع يجمل بنا ، هنــا، أن نتعامل مــع الانفصال بوصفه لا موتاً00 ولا غرقاً.. ولا بللاً- بحسب  إشارة المتنبى تلك -  فثمة عناصر منطقية تقول بأن أمام الشمال فرصة حقيقية للإنطلاق والنماء مستفيداً مما لحق به من تقلُّص فى خريطته .. ولكن دعونا نقلب هنا صفحات كلا الإحتمالين:
(أ) الرؤية المتشائمة: وهي تنزع إلى تأكيد مقولتها مستندة إلى مايلى:
تفشّى ظاهرة التفتّت والإنقسام كنتاج لنيل الجنوب حق تقرير  مصيره، لا سيما وأن عدداً من أجزاء الشمال ماتزال تعاني ذات المعضلات الإثنية- التنموية.
نقصان الموارد وإهتزاز أوعية الاقتصاد بذهاب جزء مقدر من المصادر الطبيعية إلى الجنوب ( النفط- الغابات، الأراضى الزراعية ) .
عدم حسم نقاط الخلاف العالقة ( أبيى، الحدود) ، بما سيترتب عليه من توترات ستغدو هاجساً مزعجاً مع انبساط الحدود وصعوبة الإفضاء بحل مُرض لقبائل المناطق المتنازع عليها.
(ب) الرؤية المتفائلة : وتتمثل دفوعاتها فى مايلي:
 أنه من المستحيل إيقاف نزيف الدم بين الشمال والجنوب بغير الانفصال، ومن هنا فإن موارد بشرية وإقتصادية هائلة يمكن إعادة تخصيصها لنماء الشمال.
 أن دولة الجنوب الجديدة ستحل بحدودها الجديدة محل ثلاث من الدولــ التى كانت تحــــادد السودان ( كينيا ، يوغندا، الكنغو) مع غالب حدود أفريقيا الوسطى ، وجميعها من الدول التى تشهد تفلتات أمنية فى أطرافها الحدودية، بما يعنيه التطور الجديد من المباعدة بين الشمال وهذه الحدود المتطاولة التهاباً.
يمكن للشمال أن ينصرف بعد الانفصال إلى التعاطى الواثق مع معضلاته السياسية بتبني منهج فى التراضي والوفاق السياسي، كانت الأزمة فى الجنوب سبباً أساسياً فى عدم القدرة على تبنيه وتطويره والالتزام به ، مرة لأن الأزمة بنفسها ظلت مصدراً للخلاف حولها، فكراً وعملاً ، ومرة أخرى لأن موارد هائلة قد خصصت لمعالجة الأزمة : وقتاً وجهداً و مالاً، بما كان يمكن تخصيصه لمعضلات البنية السياسية الشمالية، وعلى وجه خاص أزمة دارفور.
إن علاقات  السودان( الشمال) الخارجية ارتهنت طويلاً لواقع النزاع مع الجنوب، فكان أن ألقى الطابع الدينى- الثقافى- الإثنى بثقله فى جرّ الحكومات الغربية ومنظمات حقوق الإنسان لإتخاذ ذلك الوضع ذريعة فى محاصرة النظام السوداني، ومن هذا المنطلق فإن الانفصال- ربما- يخفف من أعباء الإرث الذى إعتمدت عليه السياسة الغربية فى جورها وتعنتها. ومن  منحى آخر فإن ارتباط السودان ( الشمال) العروبى الإسلامى قد يكون أقل حرجاًّ فى تشكيل  السياسة الخارجية السودانية ، مما كان عليه الحال قبلاً فى ماكان يضعه من اعتبار للتباين مع الجنوب.
تخفيف حدة العداء الجنوبي تجاه الشمال، بصفة عامة.

(2) الجنوب

يرى الذين يركزون فى إستقراءاتهم على أثر الانفصال فى الكيان الجنوبى، أن الأمر- كذلك- تستغرقه نظرة متخوفة يجابهها بعض المتفائلين بمنطق مقابل.
 فالمتخوفون يتوقعون إخفاقاً فى بلوغ النخبة الجنوبية نضجاً يمكنها من تشكيل دولة فاعلة ، للآتى:
 إفتقار الدولة الجديدة للبنية التحتية اللازمة، بما كان يؤمل معه أن يجرى إرجاء الإستفتاء إلى أمد يمكن من الإستفادة من موارد  الشمال فى تشييد تلك البنية.
 أن النزاعات الجنوبية- الجنوبية ،ذات طبيعة حادة وممتدة فى أغوار التراث الجنوبي ، وأن الشمال وحده كان يمثل مصداً للمجابهات بين التكوينات الجنوبية، ومن هنا فمن المتوقع أن يتطاول النزاع المحلى بما يفسد مشروع الدولة الجديدة ، أو يبطئ من تكامله.
 أن القبائل المشتركة فى التماس بين الجنوب والدول الخمس المحاددة له ستفضى إلى نزاعات حدودية ، كانت حكومة السودان – سابقاً- بإمكاناتها الشعبية والدبلوماسية والرسمية، قادرة على إفراغ تلك النزاعات، بما يتطلب الأمر من الدولة الجنوبية الجديدة جهداً خارقاً لتلافيها في الغد.
ثمة مناطق حدودية ( كمثلث ألمبى في الحدود مع كينيا)، ظلت تشهد هدوءا رغم الاختلاف حولها، ويتوقع لهذه المناطق أن تشتعل مجدداً، فتقود إلى  نزاعات مسلحة.
أما منطق المتفائلين
قيقول بأن لدى الجنوب فرصة لتجاوز العقبات المشار إليها، من واقع الموارد التى تزخر بها أراضيه، بجانب حماس أهله فى قبول تحدي إقامة دولة منفصلة، والعلاقات التى تبدو حسنة مع الجوار الجنوبي ( يوغندا، كينيا،الكونغو.....).

سادسا:  مستقبل الدولة الوليدة فى الجنوب

  ثمة إفتراضان رئيسان يحكمان النظرة الى تداعيات الانفصال على  جنوب السودان، وكل من الإفتراضين له إيجابياته وسلبياته. فأول الإفتراضين يذهب الى إحتمال أن يدرك الكيان الجديد مصالحه الحقيقية المتصلة بوضعه الجيوبولتيكى- التاريخى، فيعمد من ثم  الى التصالح مع نفسه ومع جيرانه من الأفارقة - وعلى وجه أخصّ مع شمال السودان- أو أن يختار الكيان الجديد- تفضيلاً- الولاء لبنود خارجية- تبدو لأول وهلة مغرية لبلد ناهض لتوه- فيكون نتاج ذلك الإضرار بالأمن والإستقرار الإقليمى فى منطقة البحيرات( وسط وشرق القارة الأفريقية).
 فإذا ماغلبنا الإحتمال الأول فى تجليات إدراكه منطق التصالح مع الذات والجوار، فإن تداعيات هذا الخيار سوف تتمثل فى مايلى:
(1)  القدرة على بناء مصالح إقتصادية يفيد فيها الجنوب من إمكـــانات البنية التحتية التى يتمتع بهـــــا شمال السودان-نسبياً- وبخاصة فى مجال النفط.
(2) إستحداث تجارة حدودية  فاعلة مع شمال السودان تستفيد من إرث عريض فى ممارسة هذا النمط من التجارة.
(ج)   دخول عضو جديد فى المنظومة الإقتصادية لمنطقة وسط وشرق أفريقيا ، بما يعنيه ذلك من فتح باب جديد فى التعاون الإقتصادي يفيد منه الجنوب.
(د)   الولوج إلى المنظومة الأمنية الإقليمية بمــا سيمكـن الجنوب- ودول الإقليم – من تنسيق يضع حدا للتفلتات الأمنية الداخلية،  التى انطلقت كنتاج للوضع غير المستقر فى المنطقة، وبخاصة  قبل إتفاق السلام مع الجنوب.
(هـ)   تمكن الجنوب من جذب رؤوس الأموال العربية،  والإستفادة من المشاريع الإستثمارية العربية ، أخذا فى الإعتبار أن الدول العربية تضع علاقة كيان الجنوب الجديد مع شمال السودان فى محك الإستجابة لنداء الجنوب والإستثمار فى أراضيه، ومن ثم  يستفيد كلا الشمال والدول العربية من الفرص الإستثمارية المستجدة فى الجنوب.
أما تداعيات الإحتمال الثانى ، فإنها تتمثل فى مايلى :-
(1)إن يستنزف الكيان الجديد بتوجهاته العدائية، الشمال والجنوب،كليهما، بما ينتج عنه ذلك من تفش للفقر والجوع وتراجع فى وتائر التنمية.
(2)   تدفق اللاجئين إلى دول الجوار بما يعنيه ذلك من أعباء تثقل كاهل هذه الدول وتقود إلى زعزعة الأمن فيها.
 (ج)    فتح الباب واسعاً أمـــام التدخلات  الخـارجية فـــى شئون  -لا الجنوب وحده- ولكن المنطقة برمتها.
 (د)       منح الفرصة للمتطرفين بالتكاثر والنشاط فى منطقة سوف يصعب التحكم فيها مع إتساعها ووعورة تضاريسها وكثافة غاباتها.
 (هـ)      إستفحال الخلاف حول مياه النيل بما سيترتب عليه ذلك من تهديد للأمن المائى.
(و)     هروب رؤوس الأموال ، وتوقف عجلة التنمية والتجارة البينية.
(ز)    تفاقم الخلاف حول القضايا العالقة بين الشمال والجنوب، كالحدود وأبيى.


سابعاً : تداعيات الانفصال على المنطقة:

(1)التداعيات على القارة الأفريقية

تعدّ القارة الأفريقية  فى أبعادها الكلية الكبرى، أشد المناطق تأثراً بالانفصال الحادث فى الجنوب السوداني، بينما يُتوقع أن تتركــــز شدة التأثير علــى المنطقــة المتاخمـــة للجنوب ( منطقة البحيرات العظمى ).
ولاشك أن التأثر سيتخذ له نمطين متباينين سلباً وإيجاباً، بغض الطرف- هنا- عن السلوك الذي ستنتهجه دولة الجنوب الجديدة ، بمعنى أننا ننظر هنا للأثر فى حتميته الكلية.
 فمن المنطلقات الإيجابية ، يمكن القول أن الانفصال ستكسب المنطقة الأفريقية منه مايلى :-
أنموذجاً راشداً فى حل النزاعات مبنياً على الثقة والوضوح بعد أن تأسس على الخبرة الطويلة.
 إتساع الأمل فى إحلال النهج الديمقرطي بدلاً من الشمولى فى تأطير سياسات ونظم الأقطار الأفريقية.
 إكتساب عضو جديد فى المنظومة الأفريقية ، يمكنه الإسهام بخبرة_ جيدة- فى صوت القارة العالمى.
أن احتفاظ الجنوب بوشائجه التاريخية مع الشمال من شأنه أن يمنح مقولة ( الجسر العربى الأفريقى ) طابعاً سلمياً يمكن من تحقيق مبتغيات التعاون العربى- الأفريقى- ، إخراجاً لتلك المقولة من النظرة المرتابة التى كانت تتبعه فى الماضى، ( إن تحقق ذلك، فنستطيع القول: رب ضارة نافعة).
 أما المنطلقات السلبية ،  فتذهب إلــى أن القــــــــارة الأفريقية ستعاني جراء الانفصال مايلى:-
إن التزام القارة الأفريقية بمبدأ( الأبقاء على الحدود الموروثة) كمخرج من التوجهات الانفصالية، أو النزاعات الحدودية ، سيشهد انكساراً بالتطور الجديد، ربما يقود إلى  (متوالية) من المطالبات تفرغ المبدأ التاريخى من مغزاه.
 أن الإتفاقات الدولية للمياه ، وبخاصة ( مياه النيل) ، سوف تمر باختبار عسير فى تماسكها وثباتها ، بما يقتضى جهداً متصلاً فى ترسيخ الثقة بين الأطراف المستفيدة وإشاعة مناهج التكامل بينها حفاظاً  على الحقوق، إذ بغير ذلك يغدو المستقبل مظلماً.
أن الأبعاد الأمنية- فى ظروف تعاني القارة فيها معضلات نزاعية واضحة – لا يتوقع أن تشهد إستتباباً، لاسيما وأن انفصال الجنوب لا يقدم حلولاً لنزاعات تاريخية فى المنطقة المتاخمة، مثل النزاع الشهير بين النظام اليوغندي ومتمردي جيش الرب ( شمال يوغندا وجنوبها)، أو الصراعات القبلية فى الكنغو ورواندا التى تتمدّد – بصورة أو أخرى- إلى داخل الجسد الجنوبي.
تأجيج ثقافة صراع الحضارات، خاصة إذا اتبع الجنوبيون المفاهيم العنصرية لبعض الزعماء الأفارقة، مثل الرئيس اليوغندى ( موسيفنى) ،الذي يشبه العرب فى أفريقيا، بالأقلية  البيضاء فى جنوب أفريقيا.
(2)التداعيات على المنطقة العربية

إذاغلبنا الفرضية القائمة بإمكان التوصل الى وفاق سياسي، إقتصادي، إجتماعى بين مكونات شمال السودان فى مرحلة مابعد الإستفتاء، فإن الأثر السلبى لقيام كيان سياسى جديد فى جنوب السودان على المنطقة العربية سوف يتضاءل كثيراً. والمقصود بالأثر السلبى هنا هو الآثار التى قد تنتج عن تشكل كيان سياسى أفصح قادته سلفاً عن نيتهم فى تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وفى الوقت الذى لا ينبغى أن يشكل مجرد الوجود الدبلوماسي والسياسى الإسرائيلى فى الجنوب مصدر قلق بالغ للعواصم العربية ، يبقى قائما إحتمال تعميق هذا الوجود وتطوير آلياته ليشمل جوانب أكثر خطورة، ربما تمس الأمن القومي العربي مباشرة.
 وفي محور آخر ، كثر الحديث عن إنعكاسات قيام كيان سياسى جديد فى جنوب السودان على قضية مياه نهر النيل الذى يعتبر شريان الحياة فى كل من مصر والسودان. ودون الأفراط فى التهوين من قدر الخطر المحتمل ، ينبغى التذكير هنا أن النيل الأبيض، الذى ينبع من منطقة البحيرات ويمر بجنوب السودان حتى يلتقى النيل الأزرق فى الخرطوم، يرفد نهر النيل بنسبة لاتتجاوز 14% من مياهه، في  حين تجئ النسبة الأكبر(أى86%) من الهضبة الأثيوبية ورافدها الرئيسى النيل الأزرق 0 غير أن هذا المنطق ، المستند على الأرقام والحساب الكمى ، لا ينبغى أن يصرفنا عن تدبر المعالجات العادلة لمسألة المياه بحيث لا تضار دولتا المصب ولا تحرم الدولة الوليدة من نصيبها من المياه.. ولا شك عندى أن العمل المتكامل بين مثلث مصر وشمال وجنوب السودان يكتسى بأهمية قصوى فى هذا السياق وينبغى تفعيل آلياته بأعجل ماتيسر.
 أمّا الدول العربية الأخرى ،غير المجاورة للسودان مباشرة ، فيقل التأثير المباشر لإنفصال جنوب السودان عليها دون أن يختفى تماماً- إذ يمكننا هنا النظر- على سبيل المثال- إلى الدعوة لتقرير المصير فى الجزء الكردى من العراق، رغم اختلافه عن النموذج السوداني ذي التباينات الواضحة . كما أن البعض- فى سياق التطورات- يشيرُ الى إحتمال فقدان السودان للميزة الإستراتيجية باعتباره جسراً بين العالم العربى وأفريقيا غير أن تلك الملاحظة لاتصمد كثيرا أمام التحليل المعّمق إذ أن الجسر باق ولن يتحرك عن مكانه وما على الراغبين فى إستخدامه إلاّ الوفاء بالشروط العادية للإستخدام.. وأعنى بذلك توفير الشروط الموضوعية التى تجعل الكيان السياسى الجديد يلمس ويتذوق الفوائد والمكاسب التى قد يجنيها من رسوم عبور السلع والخدمات والأفكار المتجهة من الشمال( العالم العربى) الـى الجنوب( أفريقيا فى تجلياتها الجغرافية الأكثر إتساعاً).
 بصفة أكثر تحديداُ ، أرى أهمية إدارة حوار جاد عن كيفية تحقيق الأمن الإقتصادي والأمنى والمائى والسعى، قدر الإمكان ، إلى عقلنة السياسة الخارجية بالتعامل مع مسألة إنفصال جنوب السودان دونما حشد للمشاعر العاطفية ولابد لحوار من هذا النوع أن يستصحب حقائق ثلاثاً:
(أ)  التاريخ المشترك بين الشمال والجنوب ،ومراعاة أن الكيان الجنوبى المتجه الى الإنفصال لايملك الخروج من دائرة التأثير الشمالى فيه بين عشية وضحاها، حيث أن أى تأثير محتمل له على دول جواره الأفريقى أو فى المنطقة العربية عموماً لا يمكن أن يحدث بمعزل عن الشمال الذى يظل الكيان السياسى الأكبر والأقوى والأكثر تمرساً وتسامحاً، إذ ( هناك عوامل تشد الجنوب شمالاً)، كما يقول الإنجليز.
(ب) أهمية صيانة المصالح المشتركة والأمن الإقليمى المشترك باعتبار أن دولة الجنوب الوليدة ستصبح عمقاً إستراتيجيا لدولة الشمال، وكذلك دولة الشمال بالنسبة لدولة الجنوب،نظراً للحوار المباشر بين الشمال والجنوب الذى يرتبط بالقرن الأفريقى والبحر الأبيض المتوسط.
(ج)   ضرورة تعزيز التكامل الإقتصادي بين الدولتين حيث تتاح فرص التبادل التجاري ذات الجدوى فى مناطق التماس الجغرافى تحديداً وتتوفر كذلك السوانح لتطوير التجارة البينية عبر حزام السافنا المعروف بثرواته الهائلة. وهنا أيضا تبرز إمكانية لعب دور هام من العالم العربى فى تحقيق هذه الفرضية.

خاتمة

 يشهد السودان تطوراَ تاريخياً مع مثول التوجه نحو الانفصال الذى أفضى إليه حق تقرير المصير المكفول فى نصوص اتفاق السلام الشامل، وهو الاتفاق الذى وضع حدّاً لحرب امتدت فى الجنوب منذ ما قبل الاستقلال. ويتوقع للانفصال أن يلقى بتبعاته على كلا الدولتين ( الشمال والجنوب) بآثار- تتماهى بين الإيجابية والسلبية، كنتاج طبيعى للواقع الجديد0 كما ينهض احتمالان ليشكلا مستقبل الدولة الجنوبية الجديدة ، ينطلق أولهما من قدرة دولة الجنوب على التصالح مع ذاتها والآخرين، بإدراك مصالحها، بينما يذهب الاحتمال الثانى إلى فشلها فى استيعاب متطلبات مصالحها ، فترتهن إلى نظرة ضيقة تغلّب استيعاب التأثيرات الخارجية، وفى كلا الحالين، فإن للانفصال وقعاً خاصاً على المنطقة يفترق – أيضاً- بين إيجابيات محتملة ، وإحتمالات سالبة ، بما يستدعي جهوداً مخلصة تعين دولة  الجنوب على تخطي عقبات الميلاد المتعثر، فتمهد الطريق أمامها صوب اختيار المنهج الأمثل فى التعاون والتكامل بما يفيد الأفارقة والعرب على حدّ سواء.
وعلى الشمال( السودان) تقع مسئولية الوفاق السياسي الداخلي ، وكتابة دستور دائم يتعظ بتجارب الماضى ، ولا يترك ما حدث فى الجنوب ليتكرر في أجزاء أخرى من القطر،  وعلى العرب مساعدته فى التنمية التى تجعله يحافظ على مناطق مثل النيل الأزرق وجبال النوبة وأبيى وشرق السودان، وتقديم الدعم السياسي الذى يمكنه من معالجة مشكلة دارفور، وبناء علاقات طبيعية مع المجتمع الدولي.

أحدث القضايا

المزيد من القضايا >>